*عبد الباري عطوان
|
| |
| عبد البارى عطوان | | |
بدأت انتفاضة القاع التي انفجرت في الجناح المغاربي تؤتي ثمارها ليس في تونس والجزائر فقط، وإنما في دول الجوار.
وبعض الدول المشرقية أيضا، مما يعني ان القبضة الحديدية للأنظمة العربية في طريقها للتآكل تحت مطرقة الاحتجاجات الشعبية الغاضبة.
هذه ليست انتفاضة خبز، وان كان الجوع والبطالة عاملين رئيسيين في تفجيرها، وإنما هي انتفاضة كرامة، وتمرد على الإذلال ومسلسل الاهانات الذي لحق، ومازال بالإنسان العربي على مدى الثلاثين عاماً الماضية.
فإذا كانت بعض الشعوب غير العربية، او غير المسلمة، تهرب من أنظمة الظلم والفساد والقمع الى الانفصال وتقرير المصير بعد ان عجزت عن التعايش، او نتيجة لتحريض غربي.
والأكثر من ذلك تلجأ الى إسرائيل للتحالف معها، مثلما نرى في جنوب السودان، وبدرجة اقل في كردستان العراق، فأين تهرب الشعوب العربية المقهورة؟
أهم مؤشر يمكن استخلاصه من الاحتجاجات الأخيرة هذه هو ان 'ثقافة الخوف' التي فرضتها الأنظمة على الشعوب طوال العقود الماضية، تصدعت ان لم تكن قد انهارت.
وان الأنظمة بدأت تراجع حساباتها بشكل جدي للمرة الأولى، وتحسب حساب الرأي العام العربي الذي طالما تجاهلته واحتقرته.
فكان لافتاً إقدام الحكومة الجزائرية على تخفيض أسعار السلع الأساسية بمقدار النصف تقريباً في محاولة منها لاحتواء الموقف، وتخفيف حدة التوتر، بينما ذهبت نظيرتها التونسية الى ما هو ابعد من ذلك.
عندما وعد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي برصد ستة مليارات دولار لخلق 300 الف وظيفة للخريجين العاطلين عن العمل في العامين المقبلين، واصدر قراراً بإعفاء المشاريع الاستثمارية الجديدة من اي ضرائب لاستيعاب المزيد من العاطلين وتنشيط الاقتصاد الإنتاجي.
ولم يكن مفاجئاً ان تسارع السلطات الليبية للإقدام على إجراءات استباقية وقائية للحيلولة دون نزول العاطلين فيها الى الشوارع، وتحصينهم من 'فيروس' الانتفاضة التونسي ـ الجزائري 'الحميد'، مثل اعفاء السلع التموينية كافة من الرسوم الجمركية مثل السكر والرز والزيت والمعكرونة والدقيق.
فالبطالة في ليبيا التي يدخل خزينتها حوالي خمسين مليار دولار سنوياً من عوائد النفط، وتملك فائضاً مالياً يزيد عن مائتي مليار دولار لا تعرف سلطاتها كيف تستثمره، تصل معدلاتها الى اكثر من عشرين في المائة في أوساط الشباب حسب اكثر التقديرات محافظة.
الحكومة الاردنية التي ادارت ظهرها لكل تحذيرات المعارضة، وأصرت على رفع الدعم عن السلع الأساسية، وفرض ضرائب جديدة، والتجاوب بالكامل مع تعليمات صندوق النقد الدولي في تعويم الأسعار، استشعرت الخطر مقدماً، ونزلت من عليائها، وتخلت عن عنادها.
واتخذت إجراءات عاجلة لخفض أسعار السلع الاساسية لتهدئة الشارع، وامتصاص غضبته واجهاض مسيرة احتجاجية ضخمة دعت اليها النقابات بعد صلاة الجمعة المقبلة.
امران يجب ان يتوقف عندهما اي مراقب متابع للاحتجاجات، الاول هو صمت الدول الغربية، والاوروبية خاصة على الشاطئ الآخر من المتوسط.
والثاني عدم اقدام دول اخرى تشهد احتقانا داخلياً مماثلاً مثل المغرب وسورية ومصر واليمن على اجراءات مماثلة لتخفيف معاناة المواطنين.
***
نفهم صمت الدول الغربية، فهذه الدول التي ثارت لجلد امرأة في السودان، وقلبت الدنيا ولم تقعدها لحكم برجم زانية في إيران، لا تريد التغيير في المنطقة العربية، ودول الاتحاد المغاربي على وجه الخصوص.
بعد ان عقدت صفقة معها تتلخص في مكافحة هذه الأنظمة لأهم خطرين يواجهان أوروبا، الأول التطرف الإسلامي ومنظماته، والثاني مكافحة الهجرة غير الشرعية.
في المقابل تعمل الدول الأوروبية على حماية الأنظمة القائمة، وغض النظر عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان وغياب الديمقراطية والحريات في بلدانها.
ولكن ما لا نفهمه هو عدم اقدام دول عربية أخرى على ما أقدم عليه الأردن وليبيا قبل ان تواجه ما واجهته كل من تونس والجزائر، وربما ما هو أكثر.
رغم تسليمنا بأن حتى هذه الإجراءات الاستباقية قد تكون مؤقتة ومحدودة التأثير، علاوة على كونها لا تشكل ضمانة بمنع الانفجار.
السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه حاليا بقوة، وبعد متابعة التنازلات المتسارعة التي تقدمها انظمة عربية سواء لامتصاص الاحتجاجات، او لمنع وصول احتجاج مثيلاتها الى مرابعها، هو أسباب تجاهلها او بالأحرى عدم مبالاتها لمعاناة مواطنيها طوال كل هذه السنوات.
وهي التي تملك الثروات والفوائض المالية، مثلما تملك اجهزة استخبارات ترصد كل صغيرة وكبيرة في الشارع، وتملأ السجون بالمعارضين او حتى الذين يفكرون بالمعارضة.
فإذا كانت السلطات التونسية قادرة على خلق كل هذه الوظائف التي وعدت بها (300 ألف وظيفة خلال عامين) واعترفت بشرعية الاحتجاجات ومنطقيتها.
وأكد وزير إعلامها ان الرسالة قد وصلت، فلماذا لم تفعل ذلك من قبل، وانتظرت حتى يحرق الشاب محمد البوزيدي نفسه امام مقر الوالي، وهو بالمناسبة يستحق تمثالا يخلد ذكراه وتضحيته، لكي تتحرك لمعالجة الأزمة؟
ثم لماذا سمحت السلطات الجزائرية بالارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية لمفاقمة معاناة الفقراء، وهي التي تجلس على احتياطي مقداره 150 مليار دولار ويدخل ميزانيتها 55 مليار دولار سنويا عوائد نفط وغاز؟
السلطات العربية بعيدة كليا عن قراءة المتغيرات العالمية والعربية قراءة صحيحة، فقد نسيت ان سنوات الحجب والمصادرة والتكميم للإعلام ووسائله قد انقرضت، وانتهت مدة صلاحيتها بفعل التطور الكبير في وسائل الاتصال وتكنولوجياته.
فاذا كنا قد احتجنا الى أسبوعين لمعرفة انباء أحداث حماة السورية، فإننا لم نحتج الا لدقائق لمتابعة أحداث سيدي بوزيد التونسية بالصوت والصورة عبر الإعلام البديل واليوتيوب على وجه الخصوص.
التشخيص الرسمي لأمراض المجتمعات العربية كان خاطئا، ويبدو انه سيظل كذلك، لان رؤوس الأنظمة لا تريد أخبارا سيئة تعكر عليها صفو انشغالها بأمراضها الطبية المستعصية، او استمتاعها وبطانتها بثروات الشعب وعرقه.
ولهذا من الطبيعي ان يأتي العلاج كارثيا أيضا، لانه علاج وان تم، فينصب على الأعراض الجانبية وليس على العلة الأساسية.
فالسلطات في الجزائر وتونس لجأت لسياسات القليل من الجزر والكثير من العصي في علاجها لازمة الاحتجاجات، ولهذا جاءت النتائج عكسية، وحتى ان هدأت الأوضاع جزئيا في الجزائر مثلا، فانه قد يكون هدوءا مؤقتا قد لا يعمر طويلا اذا لم يتم التعاطي مع المرض الأساسي.
إجراءات تخفيض أسعار السلع الأساسية هي إجراءات عشوائية وعبارة عن حقن مسكنة او تخديرية، وهي تنازلات تعكس ارتباكا ورد فعل وليس جزءاً من إستراتيجية مدروسة بعناية.
اما التغول في استخدام الأجهزة الأمنية للتصدي للمحتجين الجائعين، فقد أطالت من امد الاحتجاجات بدلا من ان تسرع في إخمادها، فأعداد القتلى الضخم خلقت حالة من الثأر بين النظام والمواطنين، وزادت من الفجوة بينهما.
فالمزيد من الضحايا يعني المزيد من الجنازات، والمزيد من الغضب والمسيرات الاحتجاجية، وتأجيجاً اكبر لمشاعر الحنق والغضب.
إغلاق المدارس والجامعات، وإلغاء مباريات كرة القدم لحظر التجمعات، إجراء وقائي ظاهره براق، ومنطقي، ولكن غاب عن ذهن متخذيه ان هؤلاء اذا لم يذهبوا الى الجامعات والمدارس وملاعب كرة القدم سينزلون الى الشوارع للمشاركة في الاحتجاجات لأنه ليس هناك ما يفعلونه. وقد يؤجلون مشاركتهم في الاحتجاجات الى ما بعد عودتهم الى مقاعد دراستهم لاحقا.
* * *
ما نريد ان نقوله ان مظاهرات الجوع هذه ما هي الا قمة جبل الجليد، وارتفاع الأسعار الذي ادى الى تفجيرها ما هو الا المفجر او عود الثقاب فقط، فالاحتقان كبير يتضخم منذ عقود.
بسبب غياب الحريات وفساد البطانة ومعظم الحكام أيضا، والنهب المستمر للمال العام وتغول أعمال القتل والتعذيب والمحسوبية وانتهاك حقوق الإنسان وغياب القضاء العادل وكل أشكال المحاسبة والرقابة.
مليارديرات العالم، الذين جمعوا ثرواتهم من كد عرقهم، وبوسائل مشروعة، وفي مشاريع إنتاجية، وبعد دفع مستحقاتهم من الضرائب كاملة لخزانة الدولة، يتخلون عن عشرات المليارات للأعمال الخيرية تطوعا منهم، وفي دول العالم الثالث لمكافحة البطالة والجوع والجهل.
بينما مليارديراتنا الذين سرق معظمهم أمواله عبر الفساد او كونه واجهة للحكام، او لسبب صلة قرابة او نسب معهم يواصلون النهب والسلب طلبا للمزيد،
فماذا سيفعلون بكل هذه الأموال؟
في الماضي كانت الأنظمة تدعي انها تضحي بمصالح شعوبها خدمة لقضايا الأمة والعقيدة لمواجهة الاستعمار، الآن ما هي حجة هذه الأنظمة بعد ان تخلت عن كل هذه القضايا.
بل بدأت تبيع قضية فلسطين وكرامة الأمة مقابل استقرارها ورضا إسرائيل وأمريكا وأوروبا عليها والصمت على دكتاتوريتها وقمعها.
الشعوب العربية بدأت تستعيد الثقة بنفسها تدريجيا، وتدخل في مرحلة الصحوة في ظل غيبوبة الأنظمة في المقابل، وبدأت هذه الشعوب تطالب بالحد الأدنى من حقوقها المشروعة في الحرية والعيش الكريم.
من الصعب التنبؤ بما يمكن ان تتمخض عنه هذه الاحتجاجات، او ما اذا كانت تتوقف او تستمر، فالشعوب تفاجئنا دائما، والأنظمة كذلك.
ولكن ما يمكن الجزم به هو ان هذه الاحتجاجات الجزائرية والتونسية ألقت حجرا كبيرا في بركة عربية آسنة متعفنة. فالمحتجون لا يبحثون عن رغيف خبز فقط.
وإنما رغيف خبز معجون بالكرامة، مثلما يتطلعون إلى استعادة امة لدورها ومكانتها بين الأمم والنهوض من حالة السبات التي تعيشها.
من العيب ان تتصالح الأمة مع أعدائها من اجل اضطهاد شعوبها، وبما يؤدي إلى تفكيك أوطان، وضياع حقوق ومزيد من الإذلال.
لعلها بداية دوران عجلة التغيير نحو الأفضل، وما نأمله ان يكون الدوران سريعا لان حجم الضرر الحالي كبير بل كبير جدا.
*رئيس تحرير جريدة القدس العربي
صحيفة القدس العربي
12/1/2011
http://www.moheet.com/show_files.aspx?fid=442352