تنطبع في ذاكرة المتابع صور لا يمكن أن تمحى بمرور الزمن، ومن الصور الحديثة التي جذبت اهتمام العالم صور العقيد القذافي، ومقاطع الفيديو منذ لحظة اعتقاله وسحله ثم قتله بعد الاعتداء عليه بطريقة همجية، وأغلب الظن أن كثيرا من الأمريكيين انتشوا لانتصار قيمهم عندما شاهدوا القذافي مسجى على الأرض، وهو نصف عار يلتقط له كل ذي غاية صورة تذكارية للتاريخ. ومن المؤكد حينها أن كثيرين في بلاد العم سام امتدحوا الرئيس باراك أوباما الحائز على جائزة نوبل للسلام لقاء خطابات ونوايا لم ينفذ منها الكثير رغم اقتراب انتهاء مدة حكمه.
ومن الصور التي حرمنا من مشاهدتها صور زعيم القاعدة وعدو واشنطن الارهابي الأول عالميا أسامة بن لادن ميتا، لكن الأمريكيين المصدقين لرؤسائهم خرجوا إلى حدائق البيت الأبيض والساحات ابتهاجا بالقضاء على زعيم القاعدة، ومع الذكرى السنوية لأحداث 11 سبتمبر/أيلول صدر كتاب يؤكد أن القوات الخاصة الأمريكية لم تقتل الارهابي الأول الذي كان قد فارق الحياة قبل دخول جنود محاربة الأشرار.
وفي وقت تشتد فيه الحملة الانتخابية الأمريكية، ويسعى المرشحان إلى إظهار أجمل ما في خزائنهم من ربطات العنق والبدلات الفاخرة، ولا يمانعان في التقاط صور تذكارية مع كل من هب ودب، تنزل صورة السفير الأمريكي القتيل كالصاعقة على باراك حسين أوباما المتهم بالليونة مع إيران، وعدم الحزم مع الإسلاميين وغير ذلك، ومن المؤكد أن منافسه مرشح الجمهوريين ميت رومني سوف يستغلها فيما تبقى من وقت حتى الانتخابات.
صور غيرت مجرى التاريخ...
في التاريخ العالمي صور غيرت العالم كتلك التي خرجت من فيتنام للفارين من قنابل النابالم، صورة حركت مشاعر العالم في جميع القارات وخرجت الملايين تشجب العدوان الأمريكي على فيتنام، وتطالب بوقف المجازر والانسحاب في أسرع وقت. وهي صورة عكس تلك التي سربت للقنابل النووية التي حسمت الحرب العالمية الثانية وأجبرت اليابان على الاستسلام بعد هيروشيما وناغازاكي.
وفي ألبوم الكاوبوي الأمريكي الكثير من الصور مثل اسقاط تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين، تبعتها خطابات تشيد بسقوط الطاغية، وتبشر بعهد جديد من الديمقراطية، لكن الصور المسربة لاحقا كانت فظيعة، فمنها ما لا يستطيع عاقل تصوره عن سادية مجندي السيد الأبيض في سجن أبو غريب. وأخرى تكشف الانقسام والمجازر في العراق على أساس طائفي والمتاريس بين الأحياء والشوارع، وصور الأعمال الارهابية اليومية.
قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن فعل صورة السفير الأمريكي لدى ليبيا قتيلا وانعكاسات ذلك، لكن صورة اقتحام السفارة الأمريكية واحتجاز الرهائن عقب الثورة الإسلامية في إيران أسقطت جيمي كارتر. كما أن صور سحل رؤوس جنود المارينز الأمريكيين في الصومال مرغت سمعة واشنطن بالتراب وجرت استقالات في البنتاغون والخارجية.
وربما لن تقتصر انعكاسات عملية قتل السفير الأمريكي في ليبيا على الأوضاع في داخل ليبيا، ومن غير المستبعد أن تأخذ أبعادا أكبر، ومن المرجح أن تؤثر العملية الارهابية التي استهدفت مقر القنصلية الأمريكية في مدينة بنغازي الليبية على مجرى الانتخابات الأمريكية في ظل التنافس الحاد بين أوباما ورومني. فحادثة قتل السفير الأمريكي في ليبيا كريستوفر ستيفنز وثلاثة من مرافقيه حادثة ليست سهلة، وتعد نادرة فهي الثانية من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة بعد مقتل سفيرها في افغانستان نهاية السبعينات من القرن الماضي.
وتعيد الحادثة إثارة الجدل حول علاقة الولايات المتحدة مع التنظيمات الإسلامية في بلدان الربيع العربي، وخصوصا ليبيا التي لم تنجز ثورتها ضد العقيد معمر القذافي من دون دعم أمريكي وغربي واضح.
من يزرع الكراهية بين أمريكا والمسلمين...
ويبدو أن السيد الأمريكي لم يتعلم الكثير بعد مرور أحد عشر عاما على أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، ومازالت الأسئلة تطرح لماذا يكره المسلمون أمريكا والغرب، رغم دعم واشنطن الواضح لثورات الربيع العربي، ومساندتهم له... الجواب يحتاج إلى مقالات وأبحاث ولكن لا بأس من التوقف عند بعض النقاط والتي أعتقد أن أهمهما أن قيم الديمقراطية والحرية الأمريكية لا تصلح للتصدير إلى كثير من بلدان العالم.. وأن التحول إلى دعم حركات" الإسلام السياسي" في وجه الدكتاتوريات على أمل بناء ديمقراطيات حقيقية لم تغير قناعة القاعدة الأوسع من الشعوب العربية غير المصدقة بأن واشنطن صديقة للعرب وداعمة لخيار الشعوب.
لن يزيد استنكاري للعمل الارهابي في بنغازي وادانتي له كثيرا في ظل سيل الادانات الدولية من جميع الأطراف، لكن المهم تذكير أبناء "العم سام" بأن التصرفات غير المسؤولة وصور تدنيس القرآن، والتبول على جثث القتلى الأفغان، إضافة إلى صور التعذيب في غوانتانامو وأبو غريب، والحملة المسعورة على الإسلام باسم الديمقراطية لن تمحى من ذاكرة الشعوب.
ولعل الأهم أن الغرب يجب أن يغير صورة العرب والمسلمين في ذهنيته، ورسم صورة غير الصورة الهوليودية التي تحقر العرب والمسلمين وتقلل من شأنهم، ويبحث عن أصول وغايات من يهاجم الاديان والأعراق بحجة الحريات والدفاع عنها، ومن أين يأتي تمويل الحملات الداعية للكراهية بين الشعوب. لأن العزف على وتر الخلافات الدينية لا ينبت إلا بذور الكراهية والعداء.
بين صورتين....
أقل من عام يفصلنا عن العشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2011، يومها بدأت الأخبار تتواتر عن استهداف موكب لمسؤول ليبي رفيع ليتبين في النهاية أن موكب العقيد معمر القذافي تعرض لضربة صاروخية من الجو، وبعدها تم القبض عليه حيا ليقتل من قبل حشود ، بعد مناظر هي أقرب ما تكون إلى مشاهد القتل في العصور القديمة... فرح الغرب بزوال حكم الطاغية الدكتاتور الذي حكم ليبيا بالحديد والنار لأكثر من أربعين عاما... لكن فرحة كثيرين بزوال الطاغية رافقها خوف على مستقبل ليبيا في ظل فوضى السلاح، وزيادة نفوذ التنظيمات الإسلامية المسلحة بدعم واضح من عدوتهم السابقة واشنطن وحليفاتها الغربيات.
قبل نحو عام قتل القذافي واعتبر كثيرون ذلك بداية لمرحلة الديمقراطية، واليوم يقتل السفير الأمريكي لدى ليبيا، وتكشف الأنباء مباشرة عن دخول فرق كوماندوز إلى البلاد لاحلال الأمن. وغدا يمكن أن توجه طائرات أمريكية بدون طيار قنابلها ضد الجماعات المتطرفة، وعلى العالم أن يغفر للسيد الأمريكي إن أخطأ وأصاب مدنيين. بين صورة القذافي القتيل، وصورة السفير الأمريكي يظهر حصاد الأمريكيين في ليبيا ونتائج استثمارهم، لجان التحقيق سوف تباشر عملها منذ الغد في مقتل السيد الأبيض بينما ترفض واشنطن التحقيق في ملابسات موت القذافي. أسهم رومني سوف ترتفع دون أدنى شك، وربما توصله إلى البيت الأبيض ليتابع عمل المؤسسة الأمريكية التي تواصل جني الخيبات بسبب عدم قدرتها على التعامل مع العالم الإسلامي إلا من منطق السيد المسيطر.
يسار سليم
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)