أيّ بلد عربي أَوْلى من فلسطين بمسيرات شعبية مليونية تزحف إليها من كل البلدان العربية المحيطة بها؟ لعله آن الأوان.
كم مِن وائل غنيم هناك في لبنان والأردن واليمن والسودان والمغرب والعراق ومصر، وفي مخيمات اللاجئين، سيجلس أمام حاسوبه ويجعل من هذه الفكرة المتواضعة طوفانا "قياميا" من البشر، يكسر الجدار العنصري، ويجرف الحواجز، ويغرق المستوطنات، ويفيض على الحقول والمدن والقرى الفلسطينية، ويصنع تاريخاً جديداً للعرب والعالم.
" آن الأوان لأن يُعمِّد طوفان البشر المنتظر وحدة العرب بمفاتيح بيوت اللاجئين المرفوعة كالرايات، ويجسد المركزية الفلسطينية للعروبة والهمّ العربي والتاريخ العربي وكل نضال نبيل في هذا العالم " |
طوفان من بشر أدركوا أن لا خيار للعرب سوى أن يكونوا فلسطينيين بالاختيار، أو أن يصبحوا جميعا، وبلا استثناء، فلسطينيين رغماً عن أنوفهم. آن الأوان. آن الأوان لأن يُعمِّد هذا الطوفان المنتظر وحدة العرب بمفاتيح بيوت اللاجئين المرفوعة كالرايات، ويجسد المركزية الفلسطينية للعروبة والهمّ العربي، والتاريخ العربي، وكل نضال نبيل في هذا العالم.
من جديد، وبطرفة عين، كانت قلوب العرب وهي تنبض على وقع الهدير في ميدان التحرير تكشف عن تهافت كل الحدود والسدود والجدران التي أريد لها أن تعلو وتشهق وتحجب، حتى تعمى العين عن أختها العين، وحتى تتحول الأمة الواحدة إلى مزق تنخرها عصبيات منتنة، وأنظمة لا يجمعها إلا الخنوع والاستتباع والتخاصم وتزييف حقيقة العدو والصديق وتحويل الأنظار عن المركزية الفلسطينية للعروبة والهمّ العربي والتاريخ العربي الحديث.
هذه المركزية الفلسطينية هي التي جعلت كل عربي يتطلع بلهفة إلى ذلك الزحف المليوني إلى فلسطين، وينظر بعين الأمل لهذا المدّ الهادر من الثورات الشعبية التي فضحت خريطة العرب وجلت للقاصي والداني أن لا عروبة بدون فلسطين، ولا فلسطين بدون عروبة.
ما يسمى باعتراف العرب بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني (قمة الجزائر 1973) لم يكن إلا تتويجا لاستشراس هذه الأنظمة في اقتلاع القضية الفلسطينية من عروبتها، وإبعادها عن مركزية الهموم العربية.
لم يقولوا للفلسطيني: "اذهب أنت وربك فقاتلا، إننا ههنا قاعدون"، بل أرادوا له أن يقعد معهم، وأن يخلع ثوب الكفاح المسلح، وأن يتعرى ويرمي بندقيته في هاوية بيزنطية بلا قرار، وأن يتناسى الأهداف التي انطلقت من أجلها الثورة لقاء رُشى مالية ووعود بدعم دبلوماسي لـ"حق تقرير المصير" في الضفة الغربية.
وياله من مصير تجلى في أهتك صوره في وثائق "كشف المستور" التي عرضتها الجزيرة: صورة امرأة حرة أراد النظام العربي تخديرها لاغتصابها، بينما جلس تجار المفاوضات قوادين على بابها.
لم تكن دموع الفرح التي تفجرت من عيون العرب في كل مكان، لحظة سقوط الصنم في مصر، شماتة بالصنم الذي هوى ولا ابتهاجاًً ببليته. تلك الدموع التي غسلت غشاوات العيون لترى الضوء وتميز الهدف -والدموع أصدق كلمات القلوب والأرواح- لم تُعبّر عن الفرح بانتصار ثورة "أم الدنيا" وحسب، بل كانت من شرق الخريطة إلى غربها تفوح برائحة بساتين البرتقال في يافا، وتستبشر بفجر جديد يستعيد فيه العرب مركزية همومهم، ومحكّ وجودهم وعدمهم: فلسطين.
إنها فرحة الناجي من مَهلكة، وفرحة العاشق بعناق حبيبه، وفرحة اليتيم باستعادة أمه، بعد أن خطف جيمي كارتر ومناحيم بيغن أم العرب في كامب ديفد ويتّما أولادها، وبعد أن تحول نظام الصنم الذي هوى إلى خنجر مسموم في خاصرة كل عربي، وأصبح يتلذذ في قتل الفلسطينيين وحصارهم وإرهابهم لجّرهم من آذانهم إلى قبر قضيتهم.
قروحُ هذا الصنم الذي هوى، وفَتكُها الساديّ في جسد العرب ليست بدعاً، ولم تهبط فجأة من فراغ. إنها عَرَض إضافي من أعراض الأوبئة و"الدمامات" التي تراكمت ونخرت جسد هذه الأمة على مدى قرن كامل، هو قرن "الاستعمار بالوكالة" الذي صنعه جون فيلبي وبيرسي كوكس أوائل القرن الماضي على غرار ما صنعه بول بريمر بعدهما في العراق أوائل القرن الحالي. منذ ذلك وهذا الحاكم "المروَّض على استعمار نفسه، والاستمتاع بعبوديته ينظر إلى نفسه وشعبه ووطنه بعيون أعدائه وأعداء شعبه ووطنه"، (كما يصف ذلك روبرت فيليبسو في كتابه الرائع: الإمبريالية اللغوية).
" قروحُ الصنم الذي هوى في مصر، وفَتكُها الساديّ في جسد العرب ليست بدعاً ولم تهبط فجأة من فراغ, إنها عَرَض إضافي من أعراض الأوبئة و"الدمامات" التي تراكمت ونخرت جسد هذه الأمة على مدى قرن كامل، هو قرن "الاستعمار بالوكالة"
" |
ليس غريبا إذن أن يسافر أمير عربي مسلم إلى لندن (1919) برفقة مولى نعمته وحُكمه جون فيلبي ليدشن ذلك القرن المشؤوم بتقديم أحر التهاني للحكومة البريطانية باجتياح الجنرال اللنبي لفلسطين وبيت المقدس (محمد علي سعيد: بريطانيا وابن سعود 116).
نعم، الجنرال اللنبي صاحب القول المشهور: "اليوم انتهت الحروب الصليبية". كانت هذه التهنئة المهينة التي حملها أمير عربي مسلم إلى من دنسوا مهد السيد المسيح ومسرى رسول الله، من أوائل أعراض وباء "الاستعمار بالوكالة" في الوطن العربي لكنها لم تكن الأخيرة. ما تلاها كان أفتك منها وأوجع. إننا نقرأ في المصدر السابق (118-120) أن والد هذا الأمير كتب بخط يده: "أنا... أقر وأعترف ألف مرة للسير بيرسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى، لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم، كما ترى بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح (!) الساعة" (واضح أن جلالته لم يكن يعرف الفرق بين الساعة والديك).
ثم قال له جون فيلبي: "كيف تبصم يا عظمة السلطان بهذا الشكل؟ ألا تتوقع أن يغضب العرب على عظمتكم فيما لو عثروا على هذه الوريقة؟ فقال باستهزاء: العرب؟ العرب، وين العرب؟ نحن سلاطين العرب يا حاج فيلبي.. لورنس اسمه ملك العرب، وفيلبي اسمه شيخ العرب، ولو انتظرنا رأي العرب ما أصبحنا سلاطين العرب. وما دامت بريطانيا راضية فلا يهم إن غضب العرب أو رضوا... وقلت للسلطان: ربما يسبّب هذا التوقيع تشريدَ شعب فلسطين بكامله من فلسطين، فرد عليّ بالقول وهو يضحك بصوت مرتفع: تُريد أن أُغضب بريطانيا لأن عدداً من أهل فلسطين سيُشرّد؟ أهل فلسطين لا يستطيعون حمايتي إذا لم تحميني (كذا) بريطانيا من الأعداء، ولتحرق فلسطين بعد هذا..".
على مدى هذا القرن الأسوأ في تاريخ العرب والمسلمين استماتت هذه الأنظمة في تزوير معنى العدو والصديق للالتفاف على المركزية الفلسطينية وطردها من ملكوت الهموم العربية، ولتحرق فلسطين بعد هذا.
قبل حوالي عقدين من الزمان، في واشنطن، وفي لحظة من لحظات اليأس، عندما أجمع النظام العربي على طرد المركزية الفلسطينية من حياتنا ووجودنا، وتجند في حروب اليانكي الأميركي، ثم تواطأ معه على تبرئة الصهيونية من العنصرية، عكفتُ على دراسة "عبادة إسرائيل" عند العرب (جسور5/6) لأكتشف أن "الاستعمار بالوكالة" لا يكفي وحده لتفسير الظاهرة، وأن بعض هذه الأنظمة العربية موبوء بجرثومة لاهوتية لا تختلف أبداً عن جرثومة الصهيونية المسيحية.
معظم الحركات الاستعمارية للوطن العربي، منذ نابليون بونابرت، أدركت أهمية الوعي الديني، وحاولت استغلاله وإعادة صياغته بما يناسب أهدافها. ولقد كان لكل من هذه الحركات عمائمها الكبيرة وألسنتها الطويلة التي حاولت إقناع عامة المسلمين بأن الفرق بين سياسة "الأصدقاء المستعمرين" وبين ما جاء به الإسلام فرق طفيف تافه.
وكانت كل هذه المحاولات التزويرية، طبعاً، تصطدم بإيمان البشر البسطاء الذين يعرفون بفطرتهم أن هذه العمائم مسكونة، وأن تسمية قائد الحملة الاستعمارية نفسه بعبد الجبار أو عبد القهار، أو إلقاءه الخطب العصماء في مدح الإسلام والثناء على تاريخه ورجاله وحضارته العظيمة لا يغير شيئاً من طبيعة حملته وأهدافه الاستعمارية، ولا من واقع حربه المقدسة.
ولأن البريطانيين في اعتقادي أبرع أساطين النفاق على الأرض فقد كانت السياسة الاستعمارية البريطانية للشرق العربي أكثر الحركات الاستعمارية سخاء في عدد رجالها الذين أسلموا وآمنوا وتعمموا وصلوا وصاموا وحجوا واختاروا لأنفسهم أسماء العشرة المبشرين بالجنة.
" كل فتاوى البريطانيين كانت حُقَناً مسمومة تنتهي بمزيد من التهويد ومزيد من السفن التي تحمل المستعمرين اليهود ومزيد من الدم والعذاب الفلسطيني إلى أن قامت "دولة الكراهية" " |
كذلك كانت من أكثر الحركات الاستعمارية التي حاولت أن تناغم بين الإسلام وبين سياستها وأهدافها في الشرق العربي. أما في فلسطين فكانت كلما واجهت "شغبا" أو مقاومة لموجات الهجرة اليهودية، استعانت بعمائم العرب وأمرائهم لكي يطمئنوا أهل فلسطين إلى إخلاص الحكومة البريطانية وصداقتها للعرب والمسلمين ويسألوهم "الإخلاد إلى السكينة وإيقاف الإضراب حقنا للدماء معتمدين على الله وحسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل". (سعيد 133).
كل هذه الفتاوى كانت حُقَناً مسمومة تنتهي بمزيد من التهويد ومزيد من السفن التي تحمل المستعمرين اليهود، ومزيد من الدم والعذاب الفلسطيني إلى أن قامت "دولة الكراهية" واكتشف أهل فلسطين أن "الحاج عبد الله فيلبي" وصديقه الحاكم "العربي" كليهما يعمل على تزوير الوعي الديني اللازم "لتحرق فلسطين بعد هذا".
منذ أن خُطفت مصر من أهلها وعروبتها والعقل العربي يتعرض لتفكيك خصائص مقاومته وتحديه وتزوير وعيه الديني الذي بلغ ذروة ابتذاله في فتاوى خالد محمد خالد وشركاه في "حلف الفضول" الجديد بين الإسلام والجنرال شوازكوف. بقصد أو دون قصد، كان تزوير الوعي الديني يشحذ كل عبقرية الفتق والرتق لصناعةِ مركزيةٍ جديدة بديلة عن المركزية الفلسطينية، وتهيئة كل شروط "الذبح الحلال" لأهلنا في العراق.
ماذا على المكابي اليانكي بعد هذا التزوير أن لا يبرئ الصهيونية من العنصرية وينشد في مدح انتصاراتها الروحية وشجاعتها ونبل احتلالها لمهد المسيح "أنشودة رولان" مترجمةً إلى "الييديش" فيشنف أسماع صناديد العرب الذين توجوا بطولاتهم وانتصاراتهم بالانضمام إلى حريمه وجواريه وملك يمينه وأضافوا "عبادة إسرائيل" إلى ميثاق الجامعة العربية وبروتوكولات حكمائها. أي معنى بعد الآن لطفل في المغارة أو وحي في الغار؟
كان انهيارنا الذي صنعناه بمعاولنا في "حلف الفضول" أفجع وأفظع من انهيار الاتحاد السوفياتي، فالجمهوريات السوفياتية استبدلت طغاتها في النهاية وبقيت لأهلها، وما زال قرارها المالي والسياسي والعسكري بين يدي زعمائها، وما زالت ثروتها الوطنية ملكا لها، وما زالت أراضيها حرة لا يعربد فيها مايكل مولن. بربك قل لي: أي نظام عربي يملك اليوم قراره السياسي أو الاقتصادي أو العسكري؟ كل تعريفات "الاستعمار الكلاسيكي" تقول إن البلد الذي يفقد هذه القرارات الثلاثة هو بلد مستعمَر.
من أجل أن تحميه بريطانيا من الأعداء (أي من شعبه) لم يكتف نظام "الاستعمار بالوكالة" بأن يحرق فلسطين، بل أحرق معها كل الخريطة العربية، ووحّد بذلك حال القِبلتين. هذه النهاية الذليلة للمشروع السياسي الذي صنع أمتنا وبنى حضارتنا، ورسم الملامح الأساسية لهويتنا هي النهاية التي أقفل بها نظام "الاستعمار بالوكالة" حلقة الوجود العربي في التاريخ والواقع وأغلقها على نفسها.
وبالطبع، كان لا بد لهذه الهزيمة على الأرض من أن تواكبها هزيمة لمركزية فلسطين في الهموم العربية. بذلك تختفي من أفواه الناس وعقولهم كل المعاني والقيم التي تشكل خطراً على هذه الهزيمة وما ترتب عليها من إعادة صياغة لوعينا لأنفسنا والعالم، وإعادة صياغة لهوية الأنا والآخر، وإعادة صياغة لذاكرتنا ومعنى وجودنا، وإعادة صياغة لحريتنا وإرادتنا وتعصبنا وتسامحنا وقيمنا، وإعادة صياغة لعلاقتنا بثرواتنا الطبيعية والشكل الاجتماعي والسياسي المناسب للحالة الشاذة من إنسانيتنا، وإعادة صياغة لما هو مقدس وما ليس بمقدس، ومن ينبغي جهاده وإفناؤه ومن يجب مسالمته وحبه وعناقه، وإعادة صياغة لحاجتنا إلى القوة وشكلها ووجه استخدامها وطبيعة علاقتنا بها، وأخيراً إعادة صياغة لتاريخنا وتراثنا وكل ما يصنع من وجودنا مقبرة خرافية للاستهلاك والتكاثر والموت.
أمام أعيننا -ونحن نشهد هذه الثورات الشعبية اليوم- عالم قديم ينهار، وتنهار معه ثقافته وأخلاقه ولاهوته وإعلامه وأصنامه ومعاجمه التي ليس لها من العربية إلا الحروف.
هذه اللحظات التي نعيشها الآن معركة ضارية بين حياة أمتنا وموتها. وكل التباشير تنبؤنا بأن فلسطين لن تبرح مركزيتها العربية إلى أن يرقص العرب في عرس عروبتها. كل الذين أرادوا لفلسطين أن تحترق يحترقون وتتساقط أصنامهم في جحيم الغضب العربي. منهم من تفحم ومنهم من يسفك الدماء ويكابر وينتظر.
" ما أن سقط الصنم في مصر حتى بدأ الإسرائيليون يعدون مراسم الحداد لجنازة احتلالهم أراضي 1967, وراحت عبقريتهم التاريخية في المناحة والندب تتخيل صوراً تشاؤمية مرعبة للمستوطنات والمستوطنين " |
أما في فلسطين المحتلة فما أن سقط الصنم في مصر حتى بدأ الإسرائيليون يعدون مراسم الحداد لجنازة احتلالهم أراضي 1967 (فقط) (لاري ديرفنر، جيروزاليم بوست 23/2/2011)، وراحت عبقريتهم التاريخية في المناحة (jeremiad) والندب وصناعة "الهلوين" تتخيل صوراً تشاؤمية مرعبة للمستوطنات والمستوطنين. يقول ديرفنر "إن سنوات الاحتلال الطويلة تحتضر، وإن شيئاً ما سينفجر. إن إسرائيل ستصبح ما يشبه كوريا الشمالية بعد أن ينتهي احتلال الضفة بالطريقة التي انتهى فيها نظام مبارك. إنها مسألة وقت".
كل هذه السيناريوهات الإسرائيلية عن احتضار الاحتلال في أراضي 1967 فقط، تؤكد أن حشيش القرن الماضي ما زال "يسطل" هذا الجيوراسي الأعمى الذي يظن أنه خالد في فلسطين التاريخية أبداً.
لكن...
كم من وائل غنيم في هذا العالم العربي يقرأ هذه السيناريوهات ويردد مع طرفة: "ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً"، ثم يجلس أمام حاسوبه، ويبدأ العد العكسي لطوفان عربي "قيامي" يكسر الجدار العنصري، ويجرف الحواجز، ويغرق المستوطنات، ويفيض على الحقول والمدن والقرى الفلسطينية، ويصنع تاريخاً جديدا للعرب والعالم
No hay comentarios:
Publicar un comentario